حمل قوقل كروم لتصفح الموقع بشكل سريع

الخميس، 6 نوفمبر 2008

إشكالية وجود الغير

عرف سارتر الغير: بأنه "الأخر، الأنا الذي ليس أنا " أي ذلك الوعي وتلك الذات المباينة، المنفصلة عن ذاتي ووعيي؟ كيف يمكن لذاتي أن تذرك وجود الذوات الأخرى؟ هل يمكن والحالة هذه إثبات وجود مثل هذه الذات (المفكرة حتما) بواسطة الأسلوب الديكارتي الشهير مثلا؟ ما علاقة وجوده بوجودي؟ هل يرتبط و يتوقف وعيي بوجودي على وعيي بوجود الغير أم ينفصل ويستغني عنه؟
ليست علاقتنا بالغير مجرد علاقة معرفية، بل هي علاقة مركبة: عاطفية، وجدانية، اقتصادية، سياسية... ولذلك لا يمكن فهمها في المجرد والمطلق بل بالتخصيص والتمييز: إذ يختلف تناول إشكالية وجود الغير وعلاقته بالأنا أو معرفته أو أشكال التواصل معه أو إمكانية احترامه أو نبذه... حسبما إذا كان هذا الغير صديقا أو غريبا مثلا.
من بين كل الأخيار، يمثل الصديق نموذجا لكل القيم الإيجابية، فلا عجب أن تكون لفظة الصداقة - في اللغة العربية- مشتقة من الصدق الذي يعني الحقيقة والقوة والكمال. بل لقد ذهب القديس أوغسطين إلى "أننا لا نعرف أحدا إلا بواسطة الصداقة"، ذلك أنه مادام التواصل سبيلا للمعرفة بما يخلقه من مجال بين ذاتي مشترك، فإن هذا المجال يبلغ أقصى درجات اتساعه في علاقة الصداقة. وإذا كانت كل علاقة للأنا بالغير هي – بطريقة ما- نشدان الاعتراف، فلربما كانت الصداقة من الأنماط العلائقية القليلة التي يمنح فيها هذا الاعتراف بشكل سلمي باعتبارها علاقة ود وحب خالصين بعيدا عن كل نزوع نحو امتلاك المحبوب والاستحواذ عليه كملكية خاصة. ولعل ما يميز الصداقة حسب كانط هو جمعها بين مطلبين يصعب الجمع بينهما: الحب بما يعنيه من اقتراب وتلاه والاحترام بما يعنيه من ابتعاد وتقدير.
ولكن أي نوع من الصداقة هذا الذي يحقق هذه الشروط؟ فالصداقة ثلاث أنواع حسب أرسطو: صداقة المتعة حيث الجامع شيء أو موضوع للمتعة المشتركة؛ صداقة المنفعة حيث الرابط هو المنفعة المتبادلة ثم الصداقة الحقيقة: صداقة الفضيلة التي تقوم على حب الخير لذاته وللأصدقاء، دون أن تلغي إمكانية حضور المتعة والفائدة كنتيجتين لاكغايتين. وقد ذهب أرسطو إلى حد القول بأن الصديق الجدير بهذا الإسم هو ذاك الذي إن خاطبته كدت تقول : " ياأنا " من حيث أنه " إنسان هو أنت، لكنه بالشخص غيرك". وبعبارة أخرى، فإننا نعثر في الصديق على ذاتنا لما بيننا من تشابه وتطابق. لكن هل نحن فعلا نصادق الصديق لأنه شبيهنا كما ذهب إلى ذلك أيضا أنبادوقليد؟ اما لأنه ضدنا ونقيضنا كما ذهب إلى ذلك هرقليط؟.
لقد فحص أفلاطون في محاورة ليزيس كلا الاحتمالين واستبعدهما و انتهى إلى أن الصداقة علاقة محبة و ميل ورغبة متبادلة بين الغير و الأنا أساسها حالة وجودية وسط بين الكمال المطلق (الخير الأقصى)و النقص المطلق (الشر الأقصى)، لأن الخير مكتف بذاته مستغن بكماله عن غيره، و من يتصف بالشر و النقص المطلقين لا يجد في نفسه الرغبة ولا الحاجة بل و لا يجد القدرة على إدراك الخير والكمال وطلبهما. إذن فأساس الصداقة هو إنطواء كل كائن على مبدأ نقص و عدم كفاية. لكن علينا بالمقابل أن نستحضر على الدوام أن الصديق يظل غيرا مهما بلغة درجة التطابق و التناهي أي يظل دوما غير قابل جزئيا إلى أن يرد أو يختزل إلى الأنا وكل محاولة لفهمه تترك دوما بقية من عدم الفهم مما يجعل الصداقة تفاهما و وفاقا مستمرين غير محدودين. إنها "الغيرية الجذرية" بتعبير "غيوم و بودريار" . ذلك إذن هو الغير عندما يتخذ وجه الصديق. فلنر الآن وجها آخر على الطرف النقيض وهو
الغريب. إذا كان الصديق عنوانا للثقة و المعرفة و الاقتراب و الاحترام فإن الغير يبدو للوهلة الأولى عنوانا للحذر، للمجهول، للنكرة، للابتعاد والإقصاء. لكن من هو الغريب تحديدا؟ إنه مفهوم زئبقي لأنه يتحدد دوما كغريب بالنسبة لجماعة مرجعية ما؛ إنه ذلك الذي لا يشاطر أعضاء الجماعة مرجعيتهم المشتركة، ذلك الذي يجر خلفه ثقافة مغايرة مجهولة، إنه الدخيل بكل بساطة، وباعتباره كذلك فقد نظر إليه عبر التاريخ كمسؤول عن كل شرور المدينة أو الجماعة والذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة. إن هذا الموقف ألإقصائي حاضر بقوة في كل مكان بدءا من ساكن المدينة الذي يعتبر نفسه "مدينيا" أصيلا محملا جميع مشاكل المدينة إلى هؤلاء الغرباء "البدو" القادمين من البعيد، وصولا إلى الخطابات السياسية القائمة على كراهية الأجنبي المهاجر و ضرورة طرده كحل للأزمات ... . لماذا و هل ينبغي أن يكون الغريب دائما اسما مستعارا للحقد و الإقصاء؟
تقوم سيكولوجية الجماعة على تطابق الأنا أو الذوات الفردية مع النحن/الجماعة انطلاقا من آليات معقدة للتنشئة الاجتماعية، مع اعتقاد راسخ في الطابع الخالص لهوية الجماعة و ثقافتها. مما يسهل على أفراد الجماعة التعرف على بعضهم و استبعاد كل غريب و آخر، وهنا تتساءل الفرنسية ذات الأصل البلغاري "جوليا كريستيفا": ألا تحمل كل جماعة غريبها في ذاتها قبل قدوم الغريب الأجنبي؟ و ذلك عندما يشعر أفرادها بالرغبة في التمرد على روابط و قيم جماعتهم ووضعها موضع تساؤل و تشكك أو عندما لا يستطيعون العثور على "أناهم" من خلال "نحن" الجماعة. وهل هناك جماعة ذات هوية خالصة تبرر استبعاد العناصر الأجنبية عنها؟ ما الهوية المغربية مثلا؟ أليست مزيجا من هويات أمازيغية ،افريقية، عربية، إسلامية، أندلسية، غربية...واللائحة طويلة. إذا فالغريب أو الآخر ليس سوى ذلك الجزء أو القوة الخفية لهويتنا التي نحاول إنكارها باستمرار بحثا عن نقاء خالص موهوم. ثم ألا تحمل الذات الفردية بدورها غريبا في ذاتها متمثلا في ذلك الجزء المجهول – اللاشعور – الذي لا يكاد الأنا يعلمه أو يعيه.

0 commentaires: