حمل قوقل كروم لتصفح الموقع بشكل سريع

الخميس، 30 أكتوبر 2008

أزمة العلم من منظور فلسفي

إن العلوم جميعا، بما فيها كل العلوم التي ينبغي إنشاؤها ، وكل العلوم التي هي في حيز العمل بعد ، لا تعدو أن تكون فروعا، بل وفروعا تابعة للفلسفة وحدها لا غير. إن هذه الفلسفة الجديدة التي بلغت حد الجرأة وربما حد الإفراط في رفعها من معنى الكونية، التي أصبحت منذ " ديكارت " سيدة الموقف ، لا ترضى بأقل من أن تحوي في نظام تأملي موحد كل القضايا ذات المعنى دون استثناء بطريقة علمية صارمة وفي منهجية عقلية يقينية، وفي تقدم للبحث غير متناه ، وإن كان منظما تنظيما عقليا. وعلى هذا النحو ينشأ لدينا صرح فريد، في تكون مستمر عبر لا تناهي الأجيال ، هو صرح الحقائق النهائية ( القطعية ) التي تترابط نظريا فيما بينها، ومن شأن هذا الصرح أن يقدم لنا الجواب عن كل ما يخطر ببالنا من قضايا، سواء أكانت قضايا الواقع أم قضايا العقل ، وسواء أكانت قضايا الزمنية أم قضايا الأبدية.

وتبعا لذلك ، فان المفهوم الوضعي للعلم في عصرنا ، منظورا إليه من الناحية التاريخية، هو مفهوم ترسبي . فقد ألقى عرض الحائط بكل القضايا التي أدرجت ضمن مفهوم الميتافيزيقا، بمعناه الضيق حينا وبمعناه الواسع حينا آخر ، ومنها كل تلك القضايا التي يطلق عليها بشيء من الغموض اسم القضايا " القصوى والعليا ". فإذا أمعنا النظر بدا لنا أن هذه القضايا وكل القضايا التي أقصتها الوضعية ، إنما تستمد وحدتها من كونها تحوي ، ضمنيا أو صراحة، في معناها قضايا العقل ، أعني العقل في كل مظاهره الخاصة . ذلك أن العقل هو الذي يوفر صراحة الموضوع الذي تخوض فيه مباحث المعرفة ( أعني المعرفة الحقيقية الأصيلة ، أي المعرفة العقلية ) وعلم القيم الحقيقي الأصيل ( نعني القيم الحق بما هي قيم العقل ) والسلوك الأخلاقي ( أي حسن التصرف الحق أعني التصرف انطلاقا من العقل العملي ).

إن العقل في كل هذا عنوان للأفكار والمثل " المطلقة " " السرمدية " " المتعالية على الزمن " " المقبولة على نحو غير مشروط ". وكذلك ، فإن أصبح الإنسان قضية " ميتافيزيقية " أعني قضية فلسفية محض ، فانّه لا ينظر في أمره إلا باعتباره كائنا عاقلا، فان كان تاريخه هو الذي يوضع موضع الاستفهام ، فالأمر يتعلق ب" معنى" التاريخ ، وبالعقل في التاريخ . إن قضية الإله تضم في الظاهر قضية العقل " المطلق " باعتباره مصدرا لاهوتيا لكل عقل في العالم ، كما تضم قضية " المعنى" في العالم. وبالطبع فان قضية الخلود هي أيضا قضية عقلية وكذا الشأن بالنسبة إلى قضية الحرية.

إن كل هذه القضايا " الميتافيزيقية " بالمعنى الواسع ، أي القضايا الفلسفية البحت بالمعنى المألوف للكلمة تتجاوز " العالم " باعتباره " كلاّ جامعا " لوقائع بسيطة. وهي تتجاوزه على وجه الدقة بوصفها قضايا تهزّ فكرة العقل .

وهي كلها تدّعي مقاما أسمى من مقام قضايا الواقع التي ترتبط بها أيضا في نظام القضايا . و بإمكاننا أن نقول إن الوضعية تقطع رأس الفلسفة. فداخل الفكرة القديمة للفلسفة وهي الفكرة التي تستمد وحدتها من الكل الذي لا ينفصم لوحدة الكينونة ، نستشف كذلك ترتيبا ذا دلالة للكينونة وبالتالي لقضايا الكينونة.

على هذا النحو بلغت الميتافيزيقا، وهي علم القضايا القصوى والعليا، مرتبة " ملكة العلوم "، التي لا يملك إلا الذهن أن يضفي معناها الأقصى على كل المعارف ، أعني معارف سائر العلوم . وهذه المهمة أيضا هي التي آل أمرها إلى الفلسفة التي كانت تتجدد، بل إنه خيل إليها أنها اكتشفت الطريقة الكونية الحق التي يمكن بفضلها لفلسفة متسقة من هذا القبيل ، بلغت ذروتها في الميتافيزيقا، أن تنشأ، على نحو جدي باعتبارها فلسفة خالدة .

0 commentaires: