أطلقت الرواية المتواترة على الآداب اللاتينية فيما بين 14، 117م اسم العصر الفضي للدلالة على أن هذه الآداب قد نزلت عن المستوى الثقافي الرفيع الذي بلغته في عصر أغسطس؛ والرواية هي صوت الزمان، والزمان هو الوسط الذي يختار فيه بين الطيب والخبيث، والعقل الحذر يجل حكمها لأن الشباب وحده هو الذي يعرف ما لا تعرفه عشرون قرناً من الزمان. على أننا نرجو أن يؤذن لنا بأن نرجئ حكمنا على هذا العصر، وأن نستمع بلا تحيز إلى ما يقوله عنه لو كان، وبترونيوس، وسنكا، وبلني الأكبر، وسلسس Celsus، واستاتيوس Statius ومارتيال، وكونتليان، وأن نستمع في أبواب أخرى من هذا الكتاب إلى أقوال تاستس، وجوفنال، وبلني الأصغر، وإبكتنس Epictetus، وأن نستمتع بأقوالهم استمتاع من لم يسمعوا قط بأنهم عاشوا في عصر من العصور الاضمحلال. ذلك أنا نجد في كل عصر شيئاً يضمحل وشيئاً ينمو؛ فالمقطوعات الشعرية الفكهة، والهجاء، والروايات القصصية، والتاريخ، والفلسفة، بلغت كلها في العصر الفضي ذروة مجدها، كما أن فن النحت الواقعي، والعمارة الضخمة قد بلغا فيه ما لم يبلغاه في عصر آخر من عصور الفن الروماني.
وفي هذا العصر دخل حديث الشارع مرة أخرى في الأدب، وأهملت بعض قواعد النحو والصرف، وحذت الحروف الساكنة من أواخر الكلمات، ولم يعبأ بها الرومان أكثر مما كان يعبأ بها الغاليون. وحدث في منتصف القرن الأول أو حواليه أن رقق الحرفان الاتينيان V (وكان ينطق كما ينطبق حرف W (و) في اللغة الإنكليزية)، B (إذا كان بين حرفين متحركين) حتى أصبحا مماثلين في النطق لحرف V الإنكليزي. وهكذا أصبحت كلمة Babere ومعناها التملك ينطق بها Bavere، وكان هذا تمهيداً للكلمة الإيطالية avere، والفرنسية Avoir؛ وأخذت كلمة Vinum ومعناها النبيذ أو الخمر تقترب في النطق من كلمة Vino الإيطالية، وكلمة Vin الفرنسية وذلك بإهمال الحرف الساكن الأخير المتغير. وقصارى القول أن اللغة الاتينية شرعت تمهد السبيل للغات القومية الإيطالية والأسبانية والفرنسية.
وجدير بنا أن نعترف في هذا المقام بـأن الخطابة ازدهرت وقتئذ على حساب البلاغة، وأن النحو ارتقى على حساب الشعر؛ وأن لمقتدرين الكفاة وجهوا كل جهودهم إلى دراسة شكل اللغة وتطورها ودقائقها، وإلى نشر اللصوص التي أصبحت في ذلك العهد نصوصاً "فصحى"، وإلى صياغة قواعد الكتابة الأدبية الراقية والخطب القضائية، وأوزان الشعر، وتقاسيم الجمل في النثر. وحأول كلوديوس أن يدخل بعض الإصلاح على الحروف الهجائية، وجعل نيرون الشعر طراز العصر المحبب، وألف سنكا الأكبر كتباً في البلاغة، وحجته في هذا أن الفصاحة تزيد كل قوة إلى ضعفيها؛ ولم يكن أحد يرقى في رومة بغير الفصاحة إلا قواد الجند وحدهم، وحتى هؤلاء القواد كان يجب أن يكونوا خطباء. واستحوذ جنون البلاغة على جميع أشكال الأدب: فأصبح الشعر خطابياً، والنثر شعرياً، وحتى بلني نفسه كتب صفحة بليغة في الكتابات الستة من كتابه في التاريخ الطبيعي. وأخذ الناس يغلون أنفسهم باتزان عباراتهم، وتناغم جملهم، وأضحت التواريخ خطباً حماسية، وأخذ الفلاسفة يجهدون أنفسهم في البحث عن النكات، وشرع كل إنسان يكتب أمثالاً مركزة موجزة، وصار الأدباء كلهم يكتبون الشعر ويقرؤونه لأصدقائهم حول مناضد في ردهات أو دور تمثيل يستأجرونها لهذا الغرض، بل إنهم كانوا يقرؤونه في الحمامات نفسها، حتى شكا من ذلك مارتيال مر الشكوى. وعقدت مباريات عامة للشعراء، ينال الفائزون فيها جوائز وتحتفل بهم المجالس البلدية، ويضع الأباطرة عل رؤوسهم أكاليل النصر. وكان الأشراف والزعماء يرحبون بأن تُهدى إليهم المؤلفات أو يُثنى عليهم فيها، وكانوا يجيزون صحبها بالولائم أو الأموال. وكانت شهوة الشعر مما أكسب هذه الفترة وتلك المدنية اللتين دنستهما الإباحية الجنسية وعهود الإرهاب المتكررة نقول كانت هذه الشهوة مما أكسب هذه الفترة ذلك الجمال الذيؤ يخلعه المؤلفون الهواة على العصر الذي يعيشون فيه.
واجتمع الشعر والإرهاب في حياة لوكان، وكان سنكا الكبير جده، وسنكا الفيلسوف عمه. وقد ولد في قرطبة عام 39 وسمي ماركس أنيوس لوكانس Marcus Annaeus Lucanus، وجيء به في طفولته إلى رومة ونشأ في بيئة أرستقراطية يصطرعفيها الشعر والفلسفة مع دسائس الحب ومع السياسة في سبيل الغلبة والمكانة السامية في الحياة. ولما بلغ الحادية والعشرين من عمره اشترك في المباريات التي عقدت أثناء الألعاب النيرونية، وتقدم إليها بقصيدة "في مدح نيرون" نال عليها جائزة. وأدخله سنكا في بلاط الإمبراطور، وسرعان ما أخذ الشاعر والإمبراطور يتطارحان الملاحم. وأرتكب لوكان غلطة شنيعة إذ كسب الجائزة الأولى في مباراة شعرية مع الزعيم، فما كان من نيرون إلا أن أمره بألا ينشر بعدها شعراً، وانسحب لوكان ليثأر لنفسه سراً بتأليف ملحمة قوية ولكنها خطابية سماها فرساليا رأى فيها الحرب الأهلية بعين الأرستقراطية البمبية. ولم يبخس لوكان في هذه الملحمة قيصر حقه، وقد وصفه فيها بتلك العبارة البليغة "Nil actum credens cum quid superssent agendum يظن أنه لم يفعل شيئاً إذا ما بقي ما لم يفعله"(1)، ولكن البطل الحقيقي في هذه الملحمة هو كاتو الأصغر الذي يضعه لو كان في مصاف الآلهة في سطر مشهور من سطور كتابهِ "Victrix causa deis placiut sed victa catoni إن القضية الرابحة سرت الآلهة، ولكن القضية الخاسرة كاتو"(2). وقد أحب لوكان أيضاً القضية الخاسرة، ومات في سبيلها. فقد اشترك في مؤامرة ليحل بيزو محل نيرون، وقبض عليه، فخارت قواه (ولم يكن قد جأوز السادسة والعشرين من عمره)، وباح بأسماء شركائه في المؤامرة، حتى اسم أمه نفسها-على حد قول المؤرخين. ولما أيد نيرون حكم الإعدام الذي صدر عليهِ، استعاد شجاعته، ودعا أصدقاءه إلى وليمة، وأكل معهم حتى شبع، ثم فتح بعض أورته، وأنشد ما قاله من الشعر في هجو الظلم والطغيان بينما كان دم الحياة ينزف من جسمه.
0 commentaires:
إرسال تعليق