ساهمت التقنية الحديثة في تطور ذات العلم وتطبيقاته التكنولوجية بسرعة كبيرة وجعلته مختلفاً عن الأمس وستجعل من عالم الغد مختلفاً تماماً عن عالم اليوم. وهذا ما أعطى للتكنولوجيا دور القوة والسلطة. فالطائرات الحديثة ذات التقنية الالكترونية أسرع بكثير من الطائرات التي تفتقر إلى هذه الخاصية، والأسلحة العسكرية، أو ما يسمى بالذكية التي تعتمد على تقنية المعلومات، تفعل أكثر بكثير مما كانت تفعله أسلحة الماضي، والكومبيوترات الصغيرة لها القدرة على إجراء الملايين من العمليات الحسابية بثوان معدودة مقارنة مع الكومبيوترات القديمة والكبيرة ذات الفاعلية المحدودة على انجاز القليل من العمليات الحسابية والمعلوماتية.
هذه التغيرات الناتجة من تطور العلم والتكنولوجيا هي ملامح أو وجوه جديدة للقوة، والتي ستقدم لنا في عالم الغد ملامح جديدة أخرى. فمعظم الانجازات والاكتشافات العلمية تحقق نتيجة المتطلبات العسكرية، والتي لعبت دوراً كبيراً في توجيه شكل وكيفية التطور التكنولوجي والمعرفي. وهذا الأمر كان في خدمة السياسة أكثر بكثير مما في خدمة الفعاليات السلمية ورجل الشارع.
وهذا ما جعل العلم الحديث وتطبيقاته التكنولوجية المعاصرة ذا تأثير بالغ الأهمية على إنسان اليوم، وذلك أكثر من أي وقت مضى طوال تاريخه باعتباره القاعدة الأساسية للاقتصاد الحديث ووسيلته لخلق الثروة والضرورة الإستراتيجية لتحديد المتطلبات وانعكاسات كل هذا على تحقيق الأهداف السياسية. وربما الأهم فقد ساهم العلم وتكنولوجيته المتطورة في انه يشكل أهم مقوم عبر تقنيات الكومبيوترات وأجهزة الاتصالات، في بروز ظاهرة العولمة.
ولم تسرع خطى العلم وتطبيقاته التكنولوجية بهذه الوتيرة لو لم يكن هناك تكثيف في مضمار البحث والتطوير.
البحث والتطوير تطور نظام البحث والتطوير على يد إديسون، مكتشف المصباح الكهربائي عام 1879، في نهاية القرن التاسع عشر مما جعل إديسون مختلفاً تماماً عن باقي العلماء والمخترعين لأنه جاء بنظام متكامل وحاوٍ على المهارات المختلفة. وتعتبر عملية الاختراع أو الابتكار معقدة، ولذا تدعو الحاجة إلى توفر مهارات وخبرات متعددة. وربما تكون هنا نقطة البداية لما يسمى بالبحث والتطوير المتضمن لنظام اختراع مع طريقة عمل. و نظام الاختراع لا ينصب على الفكرة نفسها، وإنما على كيفية تطوير الفكرة وجعلها إنتاجا واسعاً، بمعنى آخر أن تتحول إلى تقنية شاملة. وربما كلمة الاختراع هنا ليست دقيقة، وإنما تحسين أو تطور أو براءة اختراع Patent. و النظام هنا عبارة عن إحداث آلية إبداع عبر تدفق الأفكار، ثم تحريرها وجعلها ناجحة في الحياة العملية. هذا ما عمله إديسون عند ابتكاره للمصباح الكهربائي وإبداعاته الأخرى. و هذا ما قام به فورد في بداية القرن العشرين، بعد ابتكار أول سيارة عام 1895. وآخرون بعدهما كما في طيران أول طائرة عام 1903 لتصبح في ما بعد تقنية شاملة.
ساهم التقدم التكنولوجي والنضوج التنظيمي في زيادة الإنتاج وتراكم رأس المال وخلق منافسة شديدة في ما بعد بين الشركات المصنعة. وكانعكاس لهذا التنافس بزغ مفهوم البحث والتطوير كإستراتيجية للخلق والإبداع عبر تناغم الأفكار العلمية وتطبيقها من قبل المهندسين والعلماء في الواقع العملي بشكل إنتاج شامل وجعلها طريقة حياة. لذا توسع دور البحث والتطوير إلى أقسام كبيرة مع مهارات تقنية وقانونية وإدارية في المحافظة على الموقع الصناعي وإشارة على النوعية والكفاءة الإنتاجية والكلفة. وأحدثت هذه التطورات ثقافة صناعية تستمد زادها في المواصلة والتقدم من عطاءات العلم والتكنولوجيا التي تنضج وتتعمق كنتيجة طبيعية للبحث والتطوير.
وتوسع بل تخصص دور البحث والتطوير في الثورة المعلوماتية وملاءمته لتنظيم المصانع في عصر العولمة وبنيتها التحتية وأهمية كل ذلك على الريادة التكنولوجية في الاقتصاد العالمي. وانتشار الابتكارات التكنولوجية من قطاع صناعي معين إلى القطاعات الصناعية الاخرى في داخل البلد وخارجه. وانعكاس كل ذلك على سعة وسرعة الإنتاجات الصناعية في أماكن متعددة ودورهما المهم في إفرازات الماركة المسجلة للإنتاج على السوق العالمية.
وربما الأهم فإن التحولات التكنولوجية الهائلة قادت إلى صدمة كبيرة على حجم المعرفة ونظمها التي ساهمت (أي المعرفة) على أداء وظيفتين: الوظيفة الأولى هي البحث والتطوير لإنتاج المعرفة المنبثقة. وكانت العلاقة واضحة في مجال البحث (المعرفة المنبثقة) على سبيل المثال، بين علم الجينات Genetic Science وتكنولوجيا Cybernetics. الوظيفة الثانية هي المساهمة في انتشار المعرفة المكتسبة، مما لا شك فيه أن خبرات المعرفة العلمية والتقنية تحصل بشكل متراكم. ويرى بعض العلماء ان شكل التراكم قد تغير من النمط المجمع عليه والمنتظم والمستمر إلى الدوري والمتقطع وغير المنتظم.
تحديات الجديد يبدو أن المائة سنة الماضية كانت لحقل الفيزياء، كما هو معروف للكثير من العلماء والخبراء، والمائة السنة المقبلة لحقل البيولوجيا. وربما يكون هذا تعبيراً غير دقيق، وإنما الفيزياء والهندسة وغيرهما يعاد رسم دورهما في قياس وتفسير النتائج العلمية للجينات والتطورات البيولوجية الأخرى. وتعريف الفيزياء هو علم قياس الكميات الطبيعية ومحاولة تفسير هذه الظواهر.
وقد أثبتت فيزياء الكم Quantum physics انه لا يمكن تطبيق قوانين نيوتن على الكميات المتناهية الصغر. ولذا دعت الحاجة إلى ولادة نظرية الكم في العشرينات من القرن العشرين في إعطاء تفسيرات للظواهر الفيزيائية التي لا تخضع لنظرية نيوتن. وعلى الرغم من غموض هذه النظرية وعدم استيعابها من قبل الكثير من العلماء وحتى بعد سبعة عقود من اكتشافها، فإنها استطاعت تقديم تفسيرات جديدة لظواهر معقدة. وأظهرت أن العلم أحيانا لا يرتفع إلى الأفكار المثالية في الطرق أو الوسائل العلمية. والأهم أن القوانين ليست حقائق نهائية معلقة وإنما هي نسبية، أي تصلح في مجالات محددة، وظروف خاصة، وقد يكتشف تطور العلم أن القوانين المدعاة لا أساس لها من الواقع، الأمر الذي يصنفها في خانة النظرية وليس في خانة القانون. كما أعطت فيزياء الكم معاني أخرى للتقدم العلمي، ووضحت على أن محدودية نظرية الكم في القياسات واضحة لعدم استطاعتنا، مع كل التقدم العلمي، إرسال المعلومات بسرعة الضوء.
وان الأنماط أو النماذج الرياضية للعلم الحديث إذا لم تكن صحيحة فهي ليست بالضرورة خطأ. والفرضيات hypothesises هي ملاحظات لاختبار الأفكار العلمية إذا كانت عملية.
والتطور في فهم نظرية الكم واستخداماتها لأحجام متناهية الصغر في التكنولوجيا الحديثة أعطت أهمية بالغة للنظرية الرياضية Chaos. وهي نظرية رياضية مهمة، ولا تعني الفوضى أو الاضطراب أو اللاتكون كما يوحي الاسم بالانجليزية، وإنما نظام حركة قد تبدأ من مكان معين وتنتهي في مكان آخر مختلف نهائياً عن نقطة البداية. وقد تكون بداية صغيرة وتنتهي بكبيرة، مثل كرة الثلج تبدأ حبيبات ثم تكبر شيئاً فشيئاً حتى يصعب حملها. وقد تعطي هذه النظرية جوابا معينا لظاهرة ما، لكن الجواب يفسر جزءاً من الظاهرة وليس كلها، أو يكون الجواب غير الذي يبحث عنه أو نتوقعه.
وكانت ولادة العلوم التجريدية أولا تتبعها العلوم التطبيقية ثانياً إبان الثورة الصناعية. أما في ثورة المعلومات والمعرفة فقد تكون العلوم التطبيقية منتجة للعلوم التجريبية. وإذا كانت تكنولوجيا الماكينة يسهل التكهن بتطوراتها فإنه يصعب التكهن بما هو قادم في التكنولوجيا الحديثة بسبب سرعة التطور التكنولوجي في تعقيد العلوم وتقريب المسافات وزيادة الأطر العملية والتصورات الفعلية، وإذا كان هناك نوع من التطور المطرد (أو الخطي LINEARITY) في العلم والتكنولوجيا سابقاً ومحاولة التكهن بمساعدة القوانين الأساسية فإن مع سرعة خطوات تقدم العلم الحديثة وعطل عمل القوانين الخطية والدليلية EXPONENTIAL بعض الأحيان، يصعب الاعتماد على التطور المطرد. وإذا كانت هذه المشكلة قد حلت لحد ما في العلوم العلمية فإنها بالتأكيد تواجه صعوبات جمة في العلوم الاقتصادية والاجتماعية بعلم النفس والاجتماع. وعدم وجود تصور كامل حول التطور الخطي في هذه العلوم وصعوبة التكهن في القوانين الأساسية وبالتالي فشل الكثير من النماذج الاقتصادية المخططة وتصبح كلها عبارة عن فرضيات نظرية.
وهنا تكمن خطورة استخدام هذه النماذج، كما هو المعتاد، في وضع الحلول الاقتصادية والمالية لكثير من دول العالم الصغيرة منها خصوصاً، من قبل المؤسسات المالية العالمية أمثال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما وبالتالي فرض سياساتهما على الحكومات الصغيرة بشكل محدد.
والنتيجة التي نراها هي تدمير العملات المحلية واختفاء دور الاقتصاد المحلي في مواكبة التطورات وحتى الموت التدريجي للطبقة الوسطى في البلدان المتقدمة، وهذه الظاهرة أكثر وضوحاً اليوم مما كانت عليه في العشر أو العشرين سنة الماضية. كما ان استخدام العلم والتكنولوجيا في الإعلام هو من السيطرة على الأمواج العالمية للبث والإرسال ومحاولة التأثير على نمط وتفكير الآخرين وبالتالي صناعة العقول.
والتحولات الجارية اليوم في الجوانب المالية والاقتصادية والإعلامية، التي يحاول البعض من خلال صدام المظاهرات أو الدراسات والإرشاد قرع نواقيس الخطر لمعالجة الجوانب السلبية للعولمة، ما هي إلا انعكاس لدور التطوير التكنولوجي وصيرورة هذه الجوانب أدوات بيد السياسيين للوصول إلى الأهداف المبتغاة. وإظهار بلا أدنى شك أن العلم والتكنولوجيا وجهان لعملة السياسة.
0 commentaires:
إرسال تعليق